الأزمات الإنسانية واستجابة قطاع الأعمال

"تخيل دولة عدد سكانها 125 مليون نسمة بما يجعلها تحتل المركز الحادي عشر بين أكبر الدول في العالم من حيث عدد السكان. لكن هذه الدولة ليست كأية دولة نعرفها فمواطنيها لا يجدون عملاً يقتاتون منه أو مأوى يلجأون إليه وليست لديهم سبل العيش التي تمكنهم من توفير الغذاء لأنفسهم وإعالة ذويهم. ولك أن تعلم أن هذا الرقم المذكور يمثل عدد من يحتاجون المساعدات الإنسانية في أنحاء العالم، ومنشأ احتياجهم يرجع في الأغلب إلى نشوب صراعات في بلادهم لكن الكوارث الطبيعية هي الأخرى لها يد في هذا الاحتياج الذي يتطلب علاجه أموالاً مازالت جهودنا قاصرة عن توفيرها"

وجاء هذا التحذير الصريح في التقرير النهائي الذي أصدره فريق رفيع المستوى برئاسة الأمين العام للأمم المتحدة والمعني بتمويل أعمال المساعدات الإنسانية في دبي منذ أسابيع قليلة في حضرة بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة.

وأوضح التقرير الصادر تحت عنوان "مهمة لا تحتمل الفشل" أن المنظومة الإنسانية العالمية تعاني من نقص التمويل وعدم استدامته نظراً لمجموعة من العوامل من بينها التغيرات التي تطرأ على طبيعة الأزمات الإنسانية ومداها الزمني. ويعزز من هذا الرأي حقيقة أن الأمم المتحدة جمعت مساعدات إنسانية في عام 2014 تفوق ما جمعته في أي عام مضى، إلا أن تمويل المساعدات الإنسانية ما زال يسجل أكبر عجز له خلال الفترة ذاتها.

ويجب أن أعترف أنني لم أعر هذا الموضوع ما يستحقه من الاهتمام حتى وقت قريب؛ فلم أكن أرى مثلي مثل الكثيرين في القطاع الخاص صلة تذكر بين منظومة المساعدات الإنسانية وبين قطاع الأعمال باستثناء ما تقوم به المؤسسات من تبرعات خيرية. ولا أقول إن قطاع الأعمال لا تهمه المعاناة الإنسانية بل على العكس تماماً، لكن هذا لا ينفي أيضاً أننا نميل عند وقوع الكوارث الطبيعية أو نشوب الصراعات إلى اللجوء إلى أداة غير واضحة المعالم وهي ما نسميه "المجتمع الدولي" ونعهد إليه بمهمة الإنقاذ وهي مهمة ليست بسيطة على الإطلاق كما أثبتت لي الأيام.

والواقع أن المجتمعات التي تمر بأزمات قد تتحول إلى مجتمعات هشة بما يجعلها عرضة لشتى أنواع التدهور الاجتماعي والاقتصادي ومن بينها ارتفاع درجة اليأس والتطرف وعدم الاستقرار. ونادراً ما تظل هذه المشكلات تحت السيطرة،فغالباً ما يمتد تأثيرها وتنتشر وتتوغل وتبث سمومها في أوصال المنظومة العالمية. ولعلنا نرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أمثلة واضحة على هذا التفاعل القاتل الذي تحدثه هذه الأزمات والتي لم يجد أكثرها طريقه إلى الحل إلى يومنا هذا. وهذا بالطبع لا يضر بالحكومات والمجتمعات وحدها وإنما ينسحب تأثيره كذلك على الشركات في كل مكان.

ويمكننا أن نقول ببساطة إن القطاع الخاص لا يعزز من جهوده لمجابهة هذا التحدي. ففي عام 2014 لم تستجب الشركات إلا لنسبة 4.8% من النداءات الإنسانية في العالم، لكن وقبل أن نبالغ في قسوة الحكم على أنفسنا علينا أن نفكر في السبب وراء ذلك. فلماذا لم يكن للقطاع الخاص نشاط أكبر في المشاركة في معالجة الاحتياجات الإنسانية العالمية؟ ويكشف لنا البحث عن إجابة لهذا السؤل عدداً من العوامل التي تحول دون زيادة مشاركة القطاع الخاص أهمها:

أولاً تغير طبيعة الأزمات الإنسانية، فمنذ عهد ليس بالبعيد كانت تكلفة الاستجابة للأزمات الإنسانية مقسمة تقريباً بالتساوي بين الأزمات الطبيعية وحالات الصراع البشري. أما الآن فالاحتياجات الإنسانية تعود بنسبة 80% إلى الصراعات البشرية التي يتكرر معظمها أو يمتد أفقها الزمني إلى سبع سنوات أو أكثر. وهذه هي بالضبط المواقف السياسية المعقدة التي تميل الشركات بطبيعتها إلى تجنبها. وهذا يفسر قدرة نداءات الاستغاثة لمواجهة الأعاصير والزلازل على حشد مجتمع الأعمال على نحو لم تتمكن الأزمة السورية حتى الآن من بلوغه. ولا أزعم أن هناك حلاً سهلاً لهذه المسألة ومع ذلك يمكن تخفيف وطأتها جزئياً من خلال زيادة التشاور بين الشركات وحكوماتها للحصول على توجيهات تقودنا إلى أفضل الأساليب المتاحة للمساهمة في حل الأزمات وذلك في ضوء المعلومات المتوفرة.

وتكمن العقبة الثانية في قلة الثقة بين الكتلة الرئيسية في القطاع الخاص وبين المعنيين بالعمل الإنساني، وترجع قلة الثقة هذه إلى شعور الشركات بأن الآخرين لا ينظرون إليها إلا كدفتر شيكات ومما يزيد الأمور سوءاً أن هناك تصورات لدى الشركات أن قطاع المساعدات الدولية برمته يتسبب في إهدار الموارد ويعاني من انعدام الكفاءة في الإنفاق. وكلما استطعنا إعادة بناء هذه الثقة زادت احتمالات التعاون بين الطرفين. والحقيقة أن من بين التوصيات الرئيسية للفريق رفيع المستوى التوصل إلى "صفقة كبرى" تلتزم المؤسسات الإنسانية بمقتضاها بزيادة الشفافية والمساءلة والتواصل على أن يوفر كبار المانحين تمويلاً طويل المدى دون اللجوء دون داعٍ إلى وضع قيود صعبةأو اشتراط تخصيص الأموال في وجهة معينة.

ومن بين العقبات أيضاً عدم وجود مدخل واضح لمن يريد التبرع، فحتى لو أرادت الشركات التبرع أو عقد شراكة مع المؤسسات الإنسانية فلن تجد أمامها دائماً طريقة واضحة لفعل ذلك ولن تعرف الجهة التي ينبغي أن تتواصل معها لتحقيق ذلك. وتأتي المنافسة الحامية بين وكالات الإغاثة من الحصول على موارد محدودة لتزيد من تعقيد هذه المشكلة. ولذا، يلزم تأسيس مركز عالمي يجمع الشركات الراغبة في الدخول إلى عالم الأعمال الإنسانية وفهم الطريقة المثلى للمساهمة فيه، على ألا تقتصر مساهمتها على مواردها المالية فحسب، بل تمتد لتشمل منتجاتها وخدماتها وشبكات علاقاتها وقدرتها على التوسع. وتمثل مبادرة "ربط المؤسسات التجارية" التي أطلقتها ثلاثة من وكالات الأمم المتحدة في شهر يناير خطوة مهمة على هذا الطريق.

وهناك إمكانية كبرى لصياغة مبادرة متخصصة تستهدف المؤسسات الصغيرة والمتوسطة حيث تمثل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة أكثر من 90% من الشركات وتخلق ما نسبته 50% من إجمالي الوظائف على مستوى العالم. وتتميز هذه المؤسسات في الغالب بصغر حجمها ومرونتها كما أنها تتمتع بثقة المجتمعات المحلية فيها ولها حضور في معظم مناطق الكوارث الإنسانية. ومع ذلك فقلما تجد آليات رسمية لتنسيق مشاركة هذه المؤسسات في عمليات منع الكوارث والاستعداد لها والتحرك للتعامل معها، مما أدى إلى ضياع أحد أكبر مصادر الحيوية وحسن النية وأكثرها انتشاراً في القطاع الخاص دون الاستفادة منه وهو ما يجب أن يتغير.

وأخيراً، علينا أن نقر بأنه نادراً ما يُسلط الضوء على الجدوى الاقتصادية للأعمال الإنسانية التي يقوم بها القطاع الخاص حيث يخبرنا التاريخ أن التبرعات تدخل إلى المنظومة، فتُنفَق الأموال ولا يستطيع الكثير من متبرعي القطاع الخاص تقدير الفوائد التي تعود عليهم منها وهو ما يدعونا إلى تحويل طريقة تفكيرنا من التبرع للمحتاجين إلى الاستثمار في شد أزر المجتمعات وإعادتها إلى عنفوانها. وحتى نصل إلى ذلك فنحن بحاجة إلى دراسات جدوى ذات مصداقية تعرض التأثير السلبي الواقع على الشركات جراء عدم الاستقرار والكوارث ومقارنة هذا التأثير بالفوائد التي تعود على الشركات من شد أزر المجتمعات وإعادتها إلى عنفوانها.

وعندما تم الإعلان عن أهداف التنمية المستدامة الجديدة العام الماضي ومع اقتراب قيمة الاقتصاد العالمي من 80 تريليون دولار، أعلن المجتمع العالمي أن هذه الأهداف لن "تهمل أحداً". ومازلنا حسبما نراه اليوم عاجزين عن الوفاء بهذا الوعد، بل الأسوأ من ذلك أن بعضاً ممن أهملتهم التنمية هم من الأطفال والنساء الأشد ضعفاً والرجال المسؤولين عنهم. ولا يمكن أن يقف القطاع الخاص موقف المتفرج مع كل ما لديه من موارد وإمكانيات وهو يرى القطاع الإنساني العالمي يسقط، بل إنه من الحصافة أن ندرك أن مصلحتنا الشخصية تقتضي أن تبدأ الشركات في الإسهام بمزيد من الفاعلية والصدق في شد أزر المجتمعات التي تعاني من الهشاشة.

كما هو منشور على موقع الاقتصادي  فبراير 4

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

2  +  2  =