تجنُّب أزمة منتصف العمر في المؤسسات

ثمة نظرية غريبة تقول إن الرجال في مرحلة منتصف العمر قد يعاودهم الحنين إلى آخر مرة شعروا فيها أنهم محل إعجاب الآخرين، فيأخذهم الحنين إلى العودة إلى ملابسهم التي كانوا يرتدونها، وقصة الشعر التي زينت رؤوسهم، والموسيقى التي كانوا يستمعون إليها وقتها. ويلجأ الكثيرون في ظل عدم مواكبتهم لاتجاهات الموضة الحديثة إلى التمسك بالشكل الذي ظهروا عليه في أفضل أوقاتهم، ولهم كل الحق في ذلك فليس فيه ما يعيبهم إن شئنا الصدق.

لكن إذا طبقنا هذه النظرية على الشركات التي تمر بمرحلة منتصف العمر نجد أن عواقب هذا الحنين قد تكون أشد فداحة مما هي عليه مع الأفراد في هذه المرحلة. فحتى أنجح الأسماء العالمية قد تظل محصورة في دائرة أنماط التفكير القديمة رغم وصولها إلى قمة هرم الإبداع وريادة الأعمال. فقد تظل هذه الشركات على اعتقادها بأنها تتمتع بالسبق في مجالها حتى تحين لحظة السقوط، وهي حالة تنطبق حالياً على منطقة الخليج حيث ظلت مجموعة من القطاعات التقليدية المعرضة للانهيار حالياً في قبضة المؤسسات نفسها منذ سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين وحتى وقتنا هذا.          

فما الحل إذاً لهذه المعضلة المؤسسية؟ وكيف يمكن للشركات المتوسطة والكبيرة – بما في ذلك الشركات العائلية والشركات التي تحتل موقع الريادة في السوق حالياً- الاحتفاظ بريادتها القديمة أو إحياء هذه الريادة من جديد؟

ولا يسعنا هنا الظن أن الإجابة تمكن في التغييرات الشكلية أو محاولة استلهام قصص نجاح بعض الشركات غير التقليدية، بل أن الشركة الجديدة التي ستتمكن من تحقيق نجاح باهر مماثلاً لما حققته فيسبوك من غير المرجح أن تمر بنفس تجربة فيسبوك ورحلة تطورها، فالشركات الأكثر نضجاً هي التي لا تركن إلى تقليد الآخرين وإنما يكفيها الاستعانة بقواعد معدودة لا يتغير بريقها بمرور الزمن لتحتفظ بميزتها التنافسية وهي الظاهرة التي يمكن أن يطلق عليها بعضهم "سباق الحفاظ على شباب المؤسسة".

1-       اللعب على مواطن القوة

سؤالي هنا هو كيف استطاعت شركة أبل استعادة سمعتها بوصفها إحدى الشركات التي اقترن اسمها بالابتكار والإبداع في العالم؟ والجواب هو أن الشركة استطاعت أن تتميز في اتجاه يدعمه الناس وهو: التصميم الأنيق والبديهي. فالطريق إلى الإبداع الدائم يبدأ غالباً من امتلاك مخزون قوي من المهارات والمعلومات والخبرات.

وريادة الأعمال لا تساوي شيئاً إذا لم تقترن بالتنفيذ على أرض الواقع. لذلك نجد أن نقطة القوة الفائقة التي تعطي أفضلية لعدد كبير من الشركات العريقة على صغار المنافسين هي قدرتها المؤكدة على البناء على فكرة جيدة أو ابتكار واعد من خلال إخراج منتج موثوق فيه وتسويقه بفاعلية وتوزيعه بكفاءة. كما أن الشركات العريقة تتميز عموماً بجاهزيتها لاستغلال قوة البيانات الضخمة في توجيه عملية الابتكار وقياس فرضياتها الفنية والتجارية قبل طرحها في السوق.

2-       العمل مع الشركاء أصحاب القدرات العالية

أحد أعظم المزايا التي تمتلكها الشركات العريقة هي أسهمها التي تكتسبها في السوق بسبب اسمها التجاري، فهذا يعني من ضمن ما يعنيه زيادة مستوى انفتاح الشركات الأخرى عليها وتعاونها معها مقارنة بالجهات الأقل شهرة في مجال البحث والتطوير وذلك لأسباب فنية وتسويقية أيضاً.

فعلى سبيل المثال كشفت كول واي المصنعة لمعدات رياضة الجولف عن آخر ابتكاراتها في يناير 2016. ولم يكن في ذلك أي غرابة سوى أن الشريك الفني للمؤسسة في تطوير المضرب XR16 لم تكن شركة من الشركات الرياضية بل كانت شركة بوينج عملاق النقل الجوي التي ساهم مهندسوها – الذين اعتادوا العمل في المطارات وممراتها لا في ملاعب الجولف وحفرها- في تطوير الديناميكيات الهوائية لرأس المضرب.

ومن الأمثلة المشابهة في هذا الإطار ما شهده أسبوع الابتكار الوطني العام الماضي من تعاون بين أرامكس الإماراتية وإنبوست (أكبر شبكة خزائن طرود في العالم) في تركيب خزانات طرود مميكنة ذاتية الخدمة في أنحاء دبي مما يوفر على المتعاملين الكثير من العناء خلال تلقي طرود التجارة الإلكترونية وغيرها من الطرود.

3-       السعي إلى خلق تصورات جديدة ومختلفة

يمكن لجميع المؤسسات، ولاسيما تلك التي تشهد زيادة في مستوى نضجها، الاستفادة من وجود أصوات جديدة ومتنوعة في مجلس الإدارة وفريق الإدارة. ويجب أن يكون للسيدات والشباب نصيب من هذه الأصوات، إذ إنهم في الغالب أكثر مجاراة للتقنيات الناشئة وتوجهات المستهلكين، وخصوصاً في ظل السمات الديموغرافية التي تتمتع بها منطقة مثل منطقة مجلس التعاون الخليجي حيث يبلغ متوسط الأعمار 27 عاماً، وهو ما يبرهن على أن الخطوة التي اتخذتها حكومتنا الشهر الماضي بتعيين وزير للدولة لشؤون الشباب وإنشاء المجلس الوطني للشباب جاءت في وقتها تماماً.

ومن المهم أن يشعر الموظفون الشباب والجدد بأن اقتراحهم أفكار جديدة ليس محل قبول فحسب، وإنما هو محل تشجيع كبير أيضاً. وقد يكون ذلك في غاية السهولة والبساطة في الشركات الناشئة التي تضم أقل من خمسة أفراد لكن الشركات المتوسطة والكبرى التي تضم مئات أو آلاف الموظفين ستحتاج إن أرادت الخروج بالنتيجة نفسها إلى وضع سياسات مخصوصة وانتهاج ثقافة إدارية معتمدة على أعلى مستوى تُفضي إلى تحقيق ريادة الأعمال وتكافئ عليها.

كما يمكن للشركة أن تسهم في دفع الابتكار إذا وضعت لنفسها رسالة قائمة على غرض راسخ تذكّر دائماً المواهب الواعدة والشركاء المنتظرين بالسبب وراء أهمية ما يفعلونه للناس ولكوكب الأرض. وترجح الأبحاث أن هذا هو ما ينتظره جيل الألفية من الباحثين عن عمل بشدة من أصحاب العمل المحتملين والشركات التي يحتمل شراؤهم لبضائعها وخدماتها.

4-       العثور على البيئة المناسبة

في يناير من هذا العام أعلنت شركة جنرال إلكتريك أنها تعمل على نقل مقرها العالمي إلى بوسطن. فلماذا اختارت هذا الموقع؟ تجيب الشركة عن هذا السؤال وتقول إنها أرادت أن تحجز لنفسها مكاناً وسط 55 كلية وجامعة منها جامعة هارفارد وجامعة إم آي تي والجامعة الشمالية الشرقية. وتبني مدينة بوسطن وولاية ماساتشوستش مركزاً جديداً للإبداع يمكن من خلاله لموظفي شركة جنرال إلكتريك التعاون مع الباحثين المحليين.

وهكذا، فإن مفتاح نجاح أي نظام للابتكار يتمثل في هذا التضافر بين القطاع العام والخاص والأكاديمي. لهذا كان لمركز الشارقة الجديد لريادة الأعمال بالجامعة الأمريكية بالشارقة والمعروف باسم شراع ميزة تنافسية كبرى وهي حق الدخول إلى المدينة الجامعية في الشارقة بمؤسساتها التعليمية البالغ عددها 15 مؤسسة والطلاب الذين على قوتها البالغ عددهم 20000 طالب من مختلف المشارب وقطاعاتها المحلية والعامة والخاصة.

وبالمقارنة بالشركات الصغيرة تمتلك الشركات العريقة عموماً أفضلية تمكنها من وضع نفسها في قلب هذا النوع من البيئات والمساهمة في صياغة شكل هذه البيئات بطرق مفيدة، لكنها تحتاج إلى الاعتراف أولاً بأن الأفكار الجديدة العظيمة قد تأتي من عقل شخص خارج الشركة ولذلك ستكون مهمتك جذب أصحاب هذه الأفكار (وإبداعهم) إلى شركتك.

وهذه هي الحكمة السائدة في قطاع التقنية؛ حيث أنشأت مايكروسوفت شبكة دولية من مراكز الإبداع المتطورة ذات الأسماء التجارية المرموقة بالتعاون مع الحكومة والمؤسسات التعليمية وشركات القطاع الخاص. وهناك ما يزيد عن 100 من هذه المراكز في الهند وحدها تربط بين الشركة والطلاب ورواد الأعمال والشركات الناشئة وتساعدهم على تطوير مهاراتهم وأفكارهم.

 5 الاستثمار في الأفراد

عندما تقرأ في المستقبل عن شراء شركة ناشئة مجهولة في مجال التقنية بقيمة مبالغ فيها، فعليك أن تفكر في السبب الحقيقي وراء عملية الشراء، وهو بالطبع ليس منتج الشركة ولا التقنية الداخلة فيه، وإنما هو تزايد اهتمام من الشركات التي تقوم بعمليات الشراء بالمواهب الهندسية التي تقف خلف هذه المنتجات على نحو يفوق اهتمامها الموجه إلى التقنية نفسها. فالشركات تعتقد أن هذه المواهب قد تساعد في دعم طموحاتها في مجال ريادة الأعمال ولذلك فهي مستعدة لدفع أعلى سعر للحصول على هذه المواهب.

وتعلم هذه الشركات أن رأس المال البشري هو القوة المحركة للابتكار أكثر من أي عامل آخر. ولهذا يجب أن ننظر إلى التعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تقترن بطالة الشباب بنقص مخزونهم من المهارات، على أنه استثمار اقتصادي بقدر ما هو استثمار اجتماعي أيضاً. وتهتم أغلب الشركات العريقة بالمشاركة في هذا الاستثمار والمساعدة في بناء قوة عاملة تناسب احتياجات أصحاب العمل الحالية والمتصاعدة. كما إن للمشروعات الاجتماعية الإبداعية مثل مؤسسة التعليم من أجل التوظيف التي توفر للشباب تدريباً مناسباً للوظائف وتربطهم بأصحاب العمل، أثراً بالغ الأهمية.

ويقال عادةً إن الفلسفة الكلاسيكية للشركات الناشئة مثل الفيسبوك هي "النمو بسرعة وكسر الحواجز"، لكن هذه المقولة على بريقها الأخاذ ليست الطريق الوحيد للدخول إلى عالم الأعمال، إذ أن بناء مؤسسات أكثر عراقة يستلزم أن يكون الهدف هو دعم ثقافة ريادة الأعمال متوافقة مع وضع الشركة الحالي، لكنها تسمح في الوقت نفسه للشركة بالتطور في الاتجاه الذي يبتغيه مؤسسوها. وبعبارة أخرى، ينبغي للشركات مع تقدمها في العمر أن تحتفظ بشبابها من جهة المضمون.

تم نشر المقال باللغة الانجليزية على The National بتاريخ 6 مارس 2016

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5  +    =  13