عام الخير في الإمارات: كيف يتحوّل إلى إرث دائم

بعد أن انتصف عام الخير في دولة الإمارات، آن الأوان لكي نركّز ونفكّر ملياً فيما نريد إنجازه بحلول نهاية 2017. بما أنه يفصلنا عن نهاية العام نحو خمسة أشهر، فإنّنا أمام فرصة محدودة لكي نستفيد من هذه الحالة الوطنية التي سلّطت الضوء على هذا الحدث المهم اجتماعياً وثقافياً ومالياً، ولكي نعمل على تحويل هذا العام إلى إرث دائم مستحق.

بالنسبة لي أنا شخصياً، وبوصفي رجل أعمال ومواطناً إماراتياً، فإنّ عام الخير في نظري هو أكثر من مجرّد مبادرة لتشجيع الناس والمؤسسات على "المزيد" من العطاء، وإنما هو تمكين لنا من العطاء بشكل "أفضل" من خلال إيجاد طرق لتعظيم الأثر الذي يتركه هذا العطاء. ففي إطار الأولويات الحكومية، التي تشمل المسؤولية الاجتماعية والتطوّع وخدمة الوطن، من المتوقّع أن يثمر عام الخير عن مئات المبادرات وملايين الساعات التطوّعية، فضلاً عن تعزيز إسهامات القطاع الخاص.

لكنّ عام الخير فرصة غير مسبوقة للمؤسسات الحكومية والخاصّة والمنظمات غير الحكومية للتعاون فيما بينها على المستوى الوطني بهدف التوصّل إلى "منظومة" أكثر شفافية ومتانة وأمضى أثراً، تعمل على تنظيم عملية العطاء وفعل الخير في دولة الإمارات. ففي نهاية المطاف، يتمثّل أحد أهداف عام الخير في "بناء منظومة تشريعية متكاملة لمأسسة عمل الخير".

فإذا ما أنجزنا هذه المهمّة على أكمل وجه، فلن نكون المستفيدين الوحيدين، لأنّ وجود منظومة تشريعية أحدث تبني على تقاليدنا الاجتماعية والثقافية يمكن أن يحوّلها إلى نموذج يُحتذى على مستوى المنطقة. وبما أنّ دولة الإمارات هي واحدة من أسخى أمم الأرض، فليس هناك من سبب لكي لا تكون الإمارات "أصلاً" دولة رائداً عالمياً في هذا المجال.

ولكي يتحقق هذا الهدف، فإنّ لكل قطاع من قطاعات الاقتصاد ولكل شريحة مجتمعية دور يمكن أن يؤدّيه في هذه العملية:

الحكومة: تُعتبرُ الحكومة الجهة الوحيدة التي تتمتّع بالمصداقية، والقادرة على التصدّي لعملية بناء منظومة تشريعية جديدة لفعل الخير في الإمارات، يمكن أن تتحوّل إلى نموذج يُحتذى في المنطقة.

ويجب أن يكون الهدف المثالي هو التوصّل إلى منظومة أكثر فعالية وكفاءة تسهم في تعزيز الشفافية والمساءلة، وتوفير آليات أكثر اتساقاً لقياس الأنشطة الخيرية ووضع التقارير الخاصّة بها، وتعظيم الأثر الذي تتركه الهبات والتبرّعات والأنشطة التطوّعية، فإذا ما كان هناك نظام فعّال فإنّه سيتبنّى "العصي" و"الجزرات" في الوقت نفسه. كما أنّ حكومتنا تمتلك العديد من الأدوات المتاحة بين يديها لتحفيز الممارسات الخيرية، وفي الوقت ذاته استئصال الأنشطة والفعاليات التي قد تكون مؤذية.

القطاع الخاص: بما أنّ المسؤولية الاجتماعية للشركات اعتُبِرت واحدة من ركائز عام الخير في الإمارات، فإننا نحن في قطاع الأعمال أمام واجب نؤدّيه وفرصة نغتنمها في الوقت عينه. أولاً، يجب علينا أن نمضي قدماً في فعل الخير خدمة للقضايا المهمة.

ثانياً، يجب أن نضمن إيجاد أدوات متّسقة لقياس أنشطتنا في مجال المسؤولية الاجتماعية للشركات ومساهماتنا الخيرية، وتصميم آلية مناسبة لرفع التقارير الخاصّة بها، على أن يكون ذلك جزءاً مهماً من أي منظومة جديدة للعطاء وفعل الخير في دولة الإمارات.

ثالثاً، ما زلت من المؤمنين بأنّ أهم شيء يمكن أن يفعله القطاع الخاص هو أن نسعى بفعالية أكبر إلى إدماج احتياجات المجتمع ضمن نماذجنا التجارية. فهذا هو العنصر الأساسي لتعزيز الأثر الاجتماعي للقطاع الخاص، وضمان امتداد هذا الأثر إلى ما يتجاوز تقديم التبرّعات والهبات.

المؤسسات والمنظمات غير الحكومية: تحتاج أعداد أكبر من المؤسسات غير الحكومية في الإمارات إلى أن تبدأ بالنظر إلى الشفافية والمساءلة والانفتاح في تقديم التقارير بوصفها مصادر محتملة لـ"الميزة التنافسية"، وليس اعتبارها مجموعة من الإجراءات الثقلية المفروضة عليها قسراً، فهذه التدابير أساسية للفوز بثقة المانحين والجهات المعنية والمحافظة على هذه الثقة.

وثمّة أعداد لا تحصى من النماذج المخصّصة لقياس أثر المؤسسات غير الحكومية، وتتبّع عملية تخصيص الهبات والتبرّعات، وعرض المعلومات بطرق رقمية، وبالتالي فإنّ تبنّي المزيد من هذه التقنيات سيكون تطوّراً مرحّباً به. فبين جملة أخرى من الأمور، سيكون استكشاف هذه المسألة على الأغلب أحد أوجه تعاون مبادرة اللؤلؤة مع مؤسسة بيل ومليندا غيتس الهادفة إلى تعزيز فعالية القطاع في منطقة الخليج.

المتبرّعون الأشخاص: يجب على الأفراد أن يتولون قدراً أكبر من المسؤولية تجاه تبرّعاتهم الخيرية. ويكتسب هذا الأمر أهمية خاصة في ضوء الأحداث الحالية، حيث يجب على المانحين أن يعلموا بالضبط إلى أين ستذهب أموالهم، وفي أي الأغراض ستُستعمل. فنحن معتادون في ثقافتنا على العطاء غير المشروط بحيث لا تعلم اليمنى ما تنفق اليسرى، لكنّ ذلك لا يجب أن يعني بالضرورة تقديم التبرّعات لخدمة القضايا الخيرية دون إيلاء الاعتبار إلى المطارح التي ستُنفق فيها هذه الأموال.

وعندما يساورك الشك، فمن الأفضل أحياناً ألا تقدم على التبرّع دون النظر إلى المخاطر. ويجب أن تسعى منظومتنا الجديدة إلى إيجاد مجتمع من المتبرّعين يتفاعل مع قضاياه تفاعلاً أكبر ويولي اهتماماً أكبر إلى مصير الدولارات التي يتبرّع بها، وأوجه إنفاقها، وحجم الأثر الناجم عنها.

ليست مهمّة تصميم منظومة جديدة للعطاء وتطبيقها بالمهمّة اليسيرة. ولكن إذا لم نُقدِم على هذه الخطوة الآن، وفي عام الخير، فمتى نفعلها؟ لذلك آمل أن يكون يوم 31 ديسمبر 2017 لحظة مفصلية تاريخية في رحلتنا الطويلة نحو إيجاد نموذج جديد من أجل تحويل فعل العطاء إلى فعل أكثر استراتيجية وأمضى أثراً، أكثر من كون هذا التاريخ خط النهاية.

من الناحية المثالية، نحن قادرون في الأشهر المتبقّية من عام الخير على تحديد مبادئ النموذج الجديد وعلى البدء برسم الإطار الذي سيمكّن المزيد من الأفراد والمؤسسات من تكوين فهم حقيقي لعطائهم الخيري وتحمّل مسؤولية أكبر تجاهه، وليس مقاربة الأمر من ناحية النوايا فقط. فهذا هو الإرث الدائم الذي سيديم العطاء في المستقبل.

كما نشر على موقع الاقتصادي بتاريخ 31 يوليو 2017

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

8  +  1  =