تعزيز أثر مؤسساتنا غير الهادفة للربح

يقول الروائي الروسي تولستوي في إحدى رواياته " الأسر السعيدة تشبه بعضها البعض، غير أن لكل أسرة غير سعيدة قصة مختلفة عن الأخرى". ويمكن أن ينطبق الأمر نفسه على المؤسسات سواءً كانت تجارية أو خيرية. وبغض النظر عن مجال عملها أو منطقة عملها أو التكليف المنوط بها أو مهمتها، هناك تشابه ملحوظ في سمات وصفات المؤسسات جيدة الإدارة. وعلى النقيض، تختلف أوجه القصور والخلل في المؤسسات سيئة الإدارة اختلافاً يبدو لا نهائياً.

ولهذا، فعندما ننظر في مزايا تطبيق المؤسسات الخيرية "للمبادئ التجارية" في طريقة عملها، فمن الضروري أن نميز بين أنواع الممارسات التجارية التي ينبغي على المؤسسات غير الهادفة للربح محاكاتها، وأي سلوكيات غير مستدامة ينبغي عليها تجنبها مهما كانت التكاليف.

ويكمن السبيل لإيجاد التوازن المناسب في اتباع مبادئ حوكمة سليمة، وهذا هو الأمر الذي ينبغي على المؤسسات والمنظمات الخيرية في منطقة الخليج منحه الأولوية في المرحلة القادمة من تطورها حيث ينبغي ألا تقتصر جهود هذه المؤسسات والمنظمات على جمع الأموال وتنفيذ البرامج، بل يتعين عليها أيضاً العمل على الارتقاء بمعايير الحوكمة الخاصة به. وفي هذا الشأن، هناك بالتأكيد أمور كثيرة يُمكن لمؤسسات القطاع غير الهادف للربح تعلمها عن طريق دراسة أفضل (وأسوأ) الممارسات المطبقة في القطاع التجاري.

ومن الواضح أن هناك مجال للتحسين في جميع أرجاء العالم. فطبقاً لدراسة دولية نشرتها جامعة ستانفورد هذا العام، اعترف 42% من مدراء 924 مؤسسة غير هادفة للربح شملها الاستطلاع بعدم وجود لجنة تدقيق في مؤسساتهم، في حين أشار 69% من المشاركين إلى عدم وجود خطة للتعاقب الوظيفي، واعترفت نسبة باعثة على الصدمة بلغت الثلثين بأن مؤسساتهم لا تقيّم أدائها كما ينبغي.

وهذا أمر لا يمكن استمراره، ليس لأن المؤسسات غير الهادفة للربح تنخرط بالضرورة في ممارسات سيئة، ولكن لأن العديد منها لا يطبق نظم الحوكمة الأساسية اللازمة لإثبات عدم انخراطها في هذه الممارسات! وتُعد "الجدوى التجارية" لاتخاذ إجراء تصحيحي أمر لا شك فيه؛ فتطبيق إطار حوكمة قوي يمنح كافة الأطراف المعنية بما في ذلك مدراء مجالس الإدارة والإدارة والموظفين والمتطوعين والجهات المانحة ثقة أكبر بكثير في أن كل دولار يتم استثماره وكل ساعة يتم قضاؤها يحققان نوع الأثر الصحيح. وعليه، لا تقتصر فائدة زيادة الشفافية وإعداد التقارير على تحسين كمية الأموال التي تستطيع أية مؤسسة أو جمعية خيرية جمعها، بل يمكن أن يحسن أيضاً جودة تلك الأموال عن طريق جعل تدفق التبرعات أمر يمكن التنبؤ به بقدر أكبر وزيادة موثوقيته.

ويتلخص الأمر برمته في المقام الأول في الثقة؛ ولا ينبغي على الإطلاق للقطاع الخيري أن يقع في فخ اعتبار ثقة الناس فيه أمر مفروغ منه. فمن الأمور التي تعلمتها مؤسسات تجارية عديدة بجهد جهيد أن هذه الثقة هبة يمكن أن تُسلب في أي وقت. وطبقاً لمؤشر إيدلمان لقياس الثقة، وهي دراسة سنوية تقيس مستوى الثقة في مختلف المؤسسات، فقد تراجعت الثقة العالمية في المنظمات غير الحكومية بالفعل من 66% إلى 63% السنة الماضية. ومن المرجح أن ملايين إن لم يكن مليارات الدولارات تضيع على هذا القطاع نتيجة لهذا النقص في الثقة. ويعتبر تعزيز الحوكمة هو السبيل لعكس اتجاه مؤشر الثقة الهابط.

وبالطبع، يعتبر أيضاً وجود بيئة تنظيمية مواتية في دول منطقة الخليج أحد الشروط المسبقة لتعزيز مؤسساتنا الخيرية. فعلى سبيل المثال، تضم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، واللتان تمتلكان أنظمة راسخة لتسجيل الجمعيات الخيرية، ما يزيد عن 1.5 مليون مؤسسة غير هادفة للربح. وفي المقابل، تفيد تقارير منطقة الخليج بوجود بضع مئات من الجمعيات الخيرية المسجلة، بالرغم من وجود مئات أو ربما آلاف الجمعيات الأخرى التي تعمل في الظل. وينبغي ألا تظل الحاجة لمعرفة الأماكن التي تتدفق إليها تبرعاتنا الخيرية على وجه التحديد والأثر الذي تحدثه أمراً من الكماليات، بل يجب النظر إليه باعتباره أحد الضروريات.

وكما هو حال القطاعات الأخرى، يستمر عالم الأعمال الخيرية هو الآخر في تطوره. فبعد أن كان العمل الخيري حكراً على نخبة قليلة، أصبح الآن خياراً متاحاً للجميع بفضل نمو الاتصالات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي والأدوات الخارجة عن المألوف مثل التمويل الجماعي. ولا شك أن هذا التغيير التحولي في القطاع قد زاد سقف التوقعات المتعلقة بالشفافية والمحاسبة والقدرة على إثبات الأثر. وبالنسبة للجمعيات الخيرية القائمة على تبرعات الجماهير (كما هو حال معظم الجمعيات)، أصبحت الحوكمة الرشيدة عنصراً أساسياً في اكتسابها للثقة الاجتماعية اللازمة للعمل وقدرتها على جمع التبرعات.

ولا تقتصر فائدة رقمنة عملية التبرع على زيادة انتشار العمل الخيري وسهولة المشاركة فيه، ولكنها أيضاً تزيل وعلى نحو متزايد الخطوط الفاصلة بين العمل الخيري والعمل التجاري وأثرنا الاجتماعي المشترك. وفي الواقع، يوجد قبول متزايد لفكرة أن خلق القيمة طويل الأمد يوجب على كل من القطاعين التجاري وغير الهادف للربح توفيق أهدافهما طويلة الأجل مع أهداف المجتمع. وأثناء قيامهما بذلك، سترى الكثير من المؤسسات التجارية وغير الهادفة للربح مدى القواسم المشتركة فيما بينها وكم الدروس التي يمكنها أن تتعلمها من بعضها.

وكمثال واحد فقط، غالباً ما ينتاب المؤسسات غير الهادفة للربح القلق من الإفصاح عن نفقاتها العامة وتكاليف العمالة والتسويق رغم أن هذه المؤسسات تعمل على علاج بعض أهم المشكلات في عالمنا اليوم ويقتضي المنطق تقييمها بناءً على الأثر الذي تحدثه وليس بحجم نفقاتها العامة. فمن منا سيستثمر أمواله التي اكتسبها بشق الأنفس في شركة تتباهى بأنها الأقل إنفاقاً على الإدارة والتسويق؟ فمثل هذه الشركة مصيرها الهلاك لا محالة. وبالمثل، نحتاج لتقبل حقيقة أن تعيين أفضل المواهب يكلف أموالاً. وحتى تستطيع أية مؤسسة جذب الكوادر الماهرة المناسبة إلى فريق عملها، يتعين عليها أن تعرض الأسعار التي يفرضها السوق لمهاراتهم وخبراتهم.

وهنا يحضرني قول الشاعر رومي "بالأمس كنت ذكياً، لذا أردت أن أغير العالم. ولكني اليوم صرت حكيماً، ولذا أغير من نفسي". وينبغي على المنظمات غير الهادفة للربح الأكثر نجاحاً القيام بكلا الأمرين، إذ عليها أن تغير من نفسها، لتتمكن من تغيير العالم. وأخيراً، ينبغي أن يكون ذلك هدفنا، لأنه بالمؤسسات جيدة الإدارة والناجحة التي نؤسسها اليوم، سينمو ويزدهر القطاعان التجاري والخيري – ومجتمعنا ككل.

بدر جعفر مؤسس مبادرة بيرل والرئيس التنفيذي لشركة الهلال للمشاريع. وهذا المقال الافتتاحي مقتبس من كلمة مطولة تم إسلقاؤها في قمة مؤسسة الإمارات للنفع الاجتماعي للشباب التي أقيمت في أبوظبي في أكتوبر 2015.

كما هو منشور على موقع الاقتصادي بتاريخ 14

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

59  +    =  64